المادة    
  1. شهرته

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين وهو من أجل كتبه، أو أجلِّها (فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في إفراط فمن قائل: إنه بدعه وحرام، وإن العبد أن يلقي الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل: إنه فرض، إما عَلَى الكفاية، وإما عَلَى الأعيان، وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن دين الله، قَالَ: وإلى التحريم، ذهب الشَّافِعِيّ ومالك وأَحْمد بن حَنْبَل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف وساق ألفاظاً عن هَؤُلاءِ قَالَ: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة -مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم- الإ لما يتولد منه من الشر، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: {َهلك المتنطعون} أي المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كَانَ من الدين لكان أهم ما يأمر به رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعلِّم طريقه ويثني عَلَى أربابه، ثُمَّ ذكر بقية استدلالهم، ثُمَّ ذكر استدلال الفريق الآخر.
    إِلَى أن قال فإن قلت: فما المختار عندك؟
    فأجاب بالتفصيل، فقَالَ: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.
    قَالَ: فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص. فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيتها في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم عَلَى الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل، قَالَ: وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها عَلَى ما هي عليه وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، قَالَ: وهذا إذا سمعته من محدَّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إِلَى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام، وتحقق أن الطريق إِلَى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن عَلَى الندور). انتهى ما نقلته عن الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ] اهـ.

    الشرح
    هذا الكلام الذي نقله المصنف، جدير بأن يتأمل كثيراً لأنه منقول عن عَلَمٍ من أعلام الفقه والأصول، والتصوف والكلام، وله شهرة واسعة وكبيرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وهو أبو حامد الغزالي، يقول: "وإذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا" لأن من المعروف أن أهل الحديث وأهل السنة أعداء لعلم الكلام.
  2. تغلغله في علم الكلام

    ثُمَّ يقول: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين] وهذه حقيقة تنطبق عليه، فالرجل قد خبر هذا العلم، وبلغ منه مبلغاً عظيماً، ووصل فيه إِلَى الرتبة العليا في علم الكلام، والجدل.
    ومع ذلك يقول: اسمع هذا الكلام، وانظر ما أقوله لك عن مضار هذا العلم، وعلى ما فيه من تناقض، لأن من المشكلات العويصة في فكر أبي حامد الغزالي، التناقض والاضطراب، فمن يقرأ في أي كتاب من كتب الغزالي يجد أنه متناقض، فأحياناً يتناقض بعد صفحة أو صفحتين، فضلاً عن الكتاب أو الكتابين، وسبب التناقض سنعرفه عندما نتعرض لحياة أبي حامد الغزالي وكيف عاش؟ فإننا نجد في معرفة حياته أهمية نأخذ منها العبرة، ولو أن كل مسلم، وكل عالم، وكل داعية تأمل في حياة الغزالي، وسيرته، وما تقلب فيه من الأفكار، لأخذ العبرة والعظة، ولبدأ من حيث انتهى. فالرجل ذو العقل الضخم، والفكر الواسع، والمؤلفات الكبيرة، لماذا نجرب نفس التجربة؟ لماذا لا نبدأ من حيث انتهى؟
    أبو حامد الغزالي: رحل من بلاد العجم، من بلاد دوس شرق إيران، ولد سنة (450) للهجرة فأول ما برع في الفقه وبلغ فيه منزلة عالية، حيث كَانَ هناك العلماء والفقهاء من الشافعية حتى أصبح فقيها من فقهاء الشافعية يتكلم ويفتي ويعلق وهو لا يزال في مقتبل العمر.
  3. تأثره بمذهب شيخه الجويني في علم الكلام

    لقد دخل عَلَى الغزالي الداء العضال من قبل شيخه الإمام الكبير المشهور أبي المعالي الجويني، وشيخه هذا عَلَى شهرته وإمامته في مذهب الشافعية، وقع في الخطأ الكبير كما قال عن نفسه في الرسالة النظامية: لقد ركبت البحر الخضم، وخضت في الذي نهى عنه علماء الإسلام، وهو علم الكلام، وفي آخر المطاف تمنى أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، ولا يموت عَلَى علم الكلام والجدل الذي تعلمه وأضاع عمره فيه، فهل اتعظ التلميذ؟ كلا لم يتعظ.
    لقد علَّم أبو المعالي تلميذه الشك؛ لأن علم الكلام كما قال الغزالي: يولد الشك والحيرة، مع أن الغزالي من قوة ذكائه، وبراعته في العلم كَانَ يفتي الناس، وأصبح طلاب العلم يتوافدون، ويتزاحمون عَلَى منبره وعلى بابه، ومع ذلك كَانَ الشك في قلبه، والنَّاس يسمعونه يفتي في الفقه وفي الأحكام من الخارج ولا يدرون بحقيقة هذا الشك، فـالغزالي احتار وقَالَ: أين نجد اليقين الذي لا يعدله شيء في الدنيا؟ فليحمد الإِنسَان الله عَزَّ وَجَلَّ إذا وفق لليقين وللإيمان، وللاعتقاد الصحيح.
    أما أهل الحيرة والشك، فلا يشبعهم في هذه الدنيا أي متاع أبداً، مادام عنده شك في دينه، مثل الفلاسفة، واليهود والنَّصَارَى والشيوعيين وأمثالهم يفكرون ليلاً ونهاراً في هذه المجرات يُقَالَ: إنها بالملايين وأعمارها بالملايين: ما الهدف منها؟ أشياء كثيرة محيرة لا حل ولا علاج لها إلا باليقين وبالإيمان الذي يأتي نتيجة قراءة كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فهذا أبو حامد وُلد عَلَى الفطرة، ولكن علم الكلام أفسده عن طريق الشيخ الإمام أبي المعالي فهذا الشك جعل أبو حامد يقول: -كما ذكر عن نفسه في كتابه المنقذ من الضلال-: فكرت وفكرت فقلت: إن الحق لا يخرج عن أربعة أصناف - المتكلمون: أهل علم الكلام لعل الحق عندهم، واليقين يُستفاد عن طريقهم، ثُمَّ الباطنية، وهَؤُلاءِ قد سبق أن تحدثنا عنهم حيث يقولون: إنهم تلقوا العلم والهدى عن طريق الإمام المعصوم، وأهل الكلام يقولون: اليقين يتلقى عن طريق العقل والبحث، ثُمَّ الفلاسفة: قال أبو حامد: لو دخلت في الفلسفة ربما اهتديت ووجدت اليقين، ثُمَّ الصوفية.
    أما علماء الإسلام من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فلم يأتِ بهم؛ لأنه تعلم من علم الكلام: أن إيمان العوام، وإيمان النَّاس بالدين، وبالأدلة السمعية، مجرد تقليد والعياذ بالله، قالوا: هذا اليهودي يأخذ اليهودية عن أبيه عن جده، والمسلم يأخذها عن أبيه عن جده، فأغفلوه عن الحق ونسي أن في هذا الدين اليقين، وأنه دين الفطرة، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالهدى التام، وبالحق الكامل، الذي يغني عما عند المتكلمين والباطنية والفلاسفة والصوفية، لكن هذه هي بداية الانحراف، وبداية الزلل، فقد كانت هذه الأشياء كلها تتفاعل في نفس الغزالي

    ومع ذلك هو يعلم ويفتى النَّاس ويتحدث إليهم، وهؤلاء النَّاس لا يدرون، فأقبل عَلَى كتب المتكلمين، فأخذ منه ونهل كما قَالَ: حتى بلغ فيه درجة عليا، وأخيراً لم يجد فيه اليقين، لأنها نفسية حساسة شفافة، وفي منتهى الذكاء والفهم، وجد فيه تناقضاً واضطراباً فرفضه، بعد أن ألف فيه كتباً وقَالَ: إنه علم عظيم.
    ودخل في الباطنية، ولم يجد عندهم إلا الشر والشؤم والكفر والضلال المحض، فرفضهم ورفض ما هم عليه، ثُمَّ دخل في الفلسفة مع أنه رد عَلَى الفلاسفة في كتاب سماه تهافت الفلاسفة وهو من أكبر الردود عليهم، وكفَّرهم، لكنه دخل وتعمق فيهم، وأخيراً قال:لم أجد اليقين.
    ودخل في الصوفية أخيراً، ولما كتب كتابه المنقذ من الضلال الذي هو في نظره التصوف يقول فيه: الآن وجدت الحق وعرفت الطريق، وأن الهدى واليقين لا يُتلقى لا عن طريق العقل كما يقول علماء الكلام، ولا عن طريق الإمام المعصوم كما تقول الباطنية، ولا عن طريق الفلسفة، وإنما يتلقى اليقين عن طريق الكشف والذوق والوجد وهذا هو مصدر الحق واليقين، ثُمَّ بعد أن تعمق في التصوف كتب: إحياء علوم الدين وهو أجل وأكبر كتب أبي حامد الغزالي في هذه الفترة التي رأى أنه لا بد أن ينتقل فيها إِلَى التصوف.